تكاد أضواء عيدَي الميلاد ورأس السنة تحيل ليل زحلة نهاراً. من آخر حارة مار مخايل المتربعة فوق تلة في الجهة الشمالية الغربية، تبدو المدينة بيوتاً من القرميد المرشوش على هضبتين من الثلج. صار عمر «عاصمة الكثلكة» أكثر من ثلاثة قرون، ولا تزال «عروس البقاع»، مع أن «وادي العرايش» يموت، ومياه نهر البردوني الذي يشطرها نصفين تضمحل، و«القرية الكبيرة» ــــ أكبر حاضرة كاثوليكية في الشرق ــــ لا تستكين إلى حزنٍ حتى يصيبها آخر.
الشائع عن ابن زحلة أنه «زحلاوي» أولاً ولبناني ثانياً. يمارس التجارة والزراعة، ويفضّل الولاء لزعامات العائلات ونيل رضى مطرانية الفرزل وزحلة للروم الكاثوليك في سيّدة النجاة.
السكينة التي يوحي بها الثلج لا تعكس الصراع السياسي المستمر في زحلة منذ سنوات، والذي استعر بعد وفاة رئيس الكتلة الشعبية النائب السابق إلياس سكاف قبل نحو شهرين. وفاة وريث الزعامة السكافية التي فتحت أفواهاً فارهة لوراثة «التركة»، والحرب المشتعلة على الحدود وخلفها مع الجماعات التكفيرية، وورقة إعلان النوايا بين التيار الوطني الحر وحزب القوات اللبنانية، تتنازع زحلة ومزاجها السياسي، في خضمّ عبور لبنان من فُوّهة الوقت الضائع.
يداوم أنطوان زرزور في عمله في مجلّة «الروابي» على بعد مئتي متر من مطرانية الموارنة في حي كسارة. بالنسبة إليه، «لا شيء واضحاً الآن بعد وفاة إلياس بيك»، فيما «الوضع الاقتصادي تعبان. انعدام الحركة مع الشام والأردن والعراق أثّر على كل شيء، من تجارة البيض إلى الفاكهة إلخ... ونحنا بدنا 15 دقيقة منصير بالشام». الستيني المخضرم في الزواريب «الزحلية»، يذكّر بأنه «في 2006 اتخذ تيار المستقبل قراراً بتشتيت زحلة وضرب ماكينة إيلي سكاف بعدما نجحت في 2005 بالتحالف مع التيار الوطني الحر وفازت بستة مقاعد على رغم التحالف الرباعي». كانت المدينة، بحسب الزرزور، قد «توزّعت بين زعامتَي سكاف والنائب نقولا فتّوش بعد الحرب وعهد الرئيس الياس الهراوي»، لكن «نجح تيار المستقبل في بثّ التفرقة. رفض سكاف التحالف مع فتّوش في انتخابات 2009 وبقي يرفض حتى آخر لحظة الحصول على ثلاثة نواب». «مدام سكاف عطلت التحالف»، يبتسم الستيني، وهو يشير إلى السيدة ميريام طوق سكاف، زوجة الراحل إلياس وابنة النائب السابق جبران طوق. كانت زحلة ورقة عبور الرئيس سعد الحريري إلى رئاسة الحكومة واحتفاظ تيار المستقبل بالأكثرية النيابية في زمن التفاهم السوري ــــ السعودي، أو الـ«س. س».
«صرت للناس كلّهم»
أكثر من عشرين أيقونة تاريخية معلّقة في صالون المطران عصام درويش في كنيسة سيدة النجاة. يسند المطران ظهره إلى كرسيه الخشبي الغامق المزخرف الذي حُفرت عليه عبارة «صرت للناس كلهم». خلافه مع بلدية المدينة يعود الى أنه «منذ أكثر من 40 سنة لديّ هواية تجميع الأيقونات، وكنت أريد تقديمها لزحلة ووضعها في متحف. تعثّر المشروع بسبب خلاف مع البلدية حول قطعة الأرض، لكننا نبحث عن أرض جديدة». أما الشائعات عن نية الفاتيكان عزله بسبب فضائح مالية فـ«لا تستأهل الردّ عليها. أنا عضو في السينودوس الدائم، أي أننا نعرف قبل غيرنا بالقرارات، والفاتيكان لا يتعامل معنا بهذه الطريقة».
لا يحبّذ درويش استخدام لفظ «خلاف» في الحديث عن العلاقة مع ميريام سكاف، بل هو «سوء تفاهم، وقد أبدينا كل الإيجابية، لكن الطرف الآخر لا يستجيب». يرفض المطران اتهامه بمحاولة إضعاف الزعامة بعد وفاة سكاف وانتزاع قرار المدينة: «المطرانية حريصة على زعامة آل سكاف. رجال العائلة زاروني قبل فترة، وقلت لهم في حضور الراحل الياس سكاف إن أمانة سيدة النجاة هي الحفاظ على البيوت السياسية». لكن «ثمة من استغل صورة على غداء في السفارة السورية لتركيب الشائعات. الكلام الوحيد الذي قلته إنه يجب أن يبقى بيت آل سكاف مفتوحاً». يؤكّد المطران أن زحلة «مدينة الجميع والمدينة الكاثوليكية الأكبر، ومن الطبيعي أن تكون الكنيسة مؤثرة وحاضرة في تفاصيلها لأننا بَيْ الكلّ. منذ أكثر من سنة ونصف سنة، طالبتنا الأحزاب بأن نجمعها في المطرانية، ونجحنا في فرض عدم التصادم في الشارع. الكتلة الشعبية شاركت مرة واحدة في هذه الاجتماعات».
«الكتلة»: لسنا غائبين
في بيت عقد الحجر القديم، الذي تحوّل مقرّاً لـ«الكتلة» في حي سيدة النجاة، يقضي السبعيني جوزف أبو بشارة، رفيق درب السكافيين الأب والابن، معظم وقته بين صور آل سكاف وخرائط زحلة وجوارها. «جوزف بيك مات بين إيديي بفرنسا، وطلب مني ضلّ مع إيلي، وهلق إيلي بيك توفّى. صرلي 50 سنة هون». في الطبقة العلوية قاعة عمل كبيرة، تتوسّطها طاولة بيضاوية ضخمة وألواح علقت عليها أسماء «مفاتيح» القرى في الماكينات الانتخابية للكتلة. تقول الناطقة باسم المكتب الإعلامي للكتلة نيفين الهاشم: «لا نزال في الحداد، لكننا لسنا غائبين عن الساحة أبداً»، و«الكتلة الشعبية وميريام تنالان تعاطفاً شعبياً كبيراً. ورغم محاولات الجميع الإيحاء بضعفنا بعد الوفاة، إلا أننا الأقوى في المدينة ومن يقوم بالخدمات، والعام الجديد واعد». لا تنفي الهاشم أن أحد أبرز الصراعات التي تواجهها سكاف هي الخلاف مع المطران درويش، «لكننا ندافع عن أنفسنا». حصلت «مناوشات» قبل وفاة سكاف وبعدها، لكنّها الآن باتت أقسى مع شعور ميريام وفريقها بأن درويش يحاول حصر قرار المدينة في يده، من اعتراضه على مراسم الجنازة إلى الخلاف مع البلدية حول أرض المتحف، إلى الصورة التي جمعته بالوزير السابق سليم جريصاتي على مائدة السفير السوري علي عبد الكريم علي. السكافيون لم يوفّروا الفيسبوك والمواقع الإلكترونية والمفاتيح المحلية للردّ على المطران، والأخير لم يوفّر عظة للردّ المضاد.
في السياسة، تقول تقول مصادر في«الكتلة الشعبية»: «نمد أيدينا الى الجميع. نريد قانوناً انتخابياً يصلح التمثيل، وأن نشكّل كتلة لا أن يمنحنا فريق مقعداً واحداً، لأننا عندها نفضّل أن لا نترشح». ولكن، كيف «تمدّون يدكم للجميع»؟ هل ستميلون إلى المستقبل؟ تقتربون من العماد عون أو القوات اللبنانية؟ كيف هي العلاقة مع حزب الله وسوريا؟ تجيب المصادر: «ثوابتنا معروفة بشأن المقاومة والحرب في سوريا، لكننا لسنا مضطرين منذ الآن لنقف مع طرف أو آخر، 8 و14 آذار نفسهما يتغيّران. ثم من قال إن القوات والتيار لن يتحالفا؟». وتتابع: «العلاقة مع الجنرال ميشال عون وتيار المستقبل وحزب الله ممتازة، ومع القوات عادية، لكننا على خصام مع آل فتوش وهم من يعادينا»، أما بالنسبة إلى سوريا، «فالسفير قاطعنا منذ رفضنا التحالف مع فتوش». تعوّل مصادر الكتلة على الانتخابات البلدية المقبلة لإثبات القوة، بعدما فاز سكاف بلائحة كاملة بالانتخابات البلدية الأخيرة. «سنفوز بالانتخابات البلدية بنتائج أحسن من المرة السابقة، أما إذا أراد أهل زحلة تقديم البلدية لفتوش الذي يريد إنشاء معمل للاسمنت، فصحّتين على قلبو».
فتوش: نحن من يقدّم الخدمات
في حارة مار مخايل، يقع مقرّ آل فتوش. المبنى الضخم يضم ماكينة الوزير بيار فتوش الانتخابية المنظمة بدقّة. احترافية الماكينة وقوتها نقطة قوة تُسجّل لآل فتوش، ولكن يُسجّل عليهم رفعهم الدعاوى ضد كل ينتقدهم على مواقع التواصل الاجتماعي وغيابهم التام عن جنازة سكاف. يقول بيار فتوش شقيق الوزير فتوش إن «هذه المكاتب تعمل 24 ساعة في اليوم و7 أيام في الأسبوع، ونحن نعمل بصمت ولا نفرق بين الناس. السياسة هي أن تكون أنت في خدمة الناس، وأهالي زحلة وقراها يعرفون من يقدّم لهم الخدمات». يؤكد أن «أصواتنا هي من أوصلت نواب كتلة في القلب، وبعدها تفرّق النواب كل لمصالحه الخاصة»، ويجاهر رجل الأعمال بـ«أننا مع سوريا وحزب الله وخطنا معروف، لكن الراحل إيلي سكاف هو من رفض التحالف معنا واضطرّنا إلى المواجهة». أما في ما يخص معمل الاسمنت، فيؤكّد أن «المعمل في سوريا. كنا سنفتح هنا مركزاً للشركة والمستودعات. هل يُقام مصنع على مساحة 20 ألف متر؟ هذه حملة ضدنا أطلقتها شركات الترابة».
«مقبرة الأحزاب»؟
في رأي المطران درويش أن الزعامات التقليدية تنحسر في زحلة، «لأن جيل الشباب يرتدّ إلى الأحزاب». ويبدو أن المقولة الشائعة عن المدينة بأنها «مقبرة الأحزاب» لم تعد تقنع أحداً، بما في ذلك «الكتلة الشعبية» نفسها. فـ«هدف ميريام»، بحسب الهاشم، «إنشاء حزب منظّم. منذ سنة ونصف سنة أخذنا العلم والخبر، وهناك لجنة تأسيسية ونظام داخلي ومكتب سياسي».
ماروني: بيت سكاف انتهى بوفاة البيك
في غرفة الجلوس الدافئة، يُبقي النائب إيلي ماروني عيناً على ضيوفه وأخرى على شاشة التلفاز التي تعرض طريقة لطهي الديك الرومي! بالنسبة إلى النائب الكتائبي، «تحالف قوى 14 آذار هو الذي أدى إلى فوز اللائحة كاملة في 2009 لأن مزاج المدينة مع 14 آذار». يؤكّد أن «الكتائب قوة أساسية في زحلة لأنها تملك التاريخ والشرعية»، وأن «التقارب القواتي العوني لا يؤثر علينا. في كانون الثاني سنفتتح مركزاً حزبياً جديداً ليصبح عدد مراكزنا في المدينة 12». يرجّح أن «بيت سكاف انتهى مع وفاة الياس بيك»، ولا ينفي أن «الكتائب» ينوي محاولة استقطاب بعض جمهوره.
ورقة إعلان النوايا
ورقة إعلان النوايا بين التيار الوطني الحر والقوات اللبنانية حوّلت العلاقة بين الطرفين من شبه عداء إلى شبه تحالف، وخصوصاً بعد «مصيبة» مسعى الحريري بدعم ترشيح النائب سليمان فرنجية للرئاسة. يقول منسّق التيار طوني أبو يونس إن «الورقة سمحت لنا بالعمل بشكل أكبر، لأن زحلة كانت من أصعب المناطق لوجود انقسام كبير وأحقاد بين الطرفين». ويؤكّد: «وضع التيار جيد في المدينة بسبب مواقف العماد عون في الرئاسة والشراكة واستعادة حقوق المسيحيين وموقفه من الحرب في سوريا». ويلفت الى أن «هناك جمهوراً مشتركاً بيننا وبين سكاف وكذلك بين سكاف والقوات». لكنّه لا يحسم شيئاً من الآن في توزّع التحالفات الجديدة، معوّلاً كما الهاشم على الانتخابات البلدية المقبلة التي «ستحصل بنسبة 99% كما علمنا».
بدوره، يقول نائب منسّق التيار ميشال أبو نجم إن «تركيزنا اليوم على جيل الشباب، وبعد تولي جبران باسيل رئاسة التيار أخذ نفساً وأعطى التيار اندفاعاً واستفاد من الديناميكية».
من جهته، يستند منسّق القوات اللبنانية ميشال تنوري إلى النشاط الواسع لحزبه الذي يشكّل «الرقم الصعب» في المدينة: «ننظّم ندوات ونفتتح مراكز جديدة، والناس تشاركنا بشكل كبير، والسكافيون يحضرون». إعلان النوايا حسّن وضع الحزب كثيراً وسهّل انفتاحه على صفوف الشباب والطلاب، ويجزم تنوري بأن «غالبية طلاب الثانويات من أبناء زحلة في جو القوات». أما العلاقة مع آل سكاف، فيضعها في إطار «الواجبات الاجتماعية ولا اتصال سياسياً بيننا»، في انتظار «ما ستتخذه ميريام من مواقف سياسية»، مشيراً الى أن «هناك تعاطفاً مع ميريام». لكن القواتيين، في مجالسهم الخاصة، «يراهنون على استقطاب جمهور سكاف، بفعل القواعد المشتركة». فيما يرتّب المنسق الإعلامي للقوات ميشال بوعبود القوى السياسية في المدينة على الترتيب الآتي: القوات، سكاف، التيار الوطني الحر، الكتائب، وأخيراً فتوش.
بروفة السلاح في الجنازة
لساعات لم يهدأ الرصاص في زحلة خلال جنازة الياس سكاف. أكثر من ألف مسلّح أطلقوا أكثر من مليون طلقة في المدينة، في مشهد تعدّدت تفسيراته ورسائله. يشير أكثر من مراقب إلى أن الأجهزة الأمنية أجرت اختباراً في المدينة بعد الشائعات التي سرت قبل الجنازة بأن «الدولة قابّة باط عن الرصاص». كلٌ له أسبابه، ثمّة من أطلق الرصاص حزناً، وثمّة من اغتنم الفرصة لتجريب بندقيته الجديدة، وآخر قرّر إخراج الغضب الذي يعتريه عن الرصاص الذي يطلق في كلّ مرة يمر موكب لشهيد من حزب الله في المدينة، يقال هنا إن «الدولة باتت تعرف كل من يحمل سلاحاً بالاسم والصوت والصورة». ولم يعد موزّعو الذخائر مجهولين، وهم ثلاثة بحسب أكثر من مصدر. لكن القوات اللبنانية لا تغيب كلاعبٍ أساسي عن هذا المشهد، إذ يؤكّد أحد المصادر في المدينة أن «القوات أرادت أن تثبت حضورها في زحلة بالعدد والرايات. عدد كبير من المسلحين يدورون في فلكها، فضلاً عمن حضروا الجنازة من آل طوق».